منهجه العلمي

v قد تفرّد من بين أقرانه باجتهاده في علوم شتّى، مع أنّ الاجتهاد السّائد في الأوساط العلميّة يهتمّ بجانب الفقه وأصوله فقط، ولكن أبت نفسه الشّريفة إلاّ بالأخذ بالحظّ الأوفى منها، وقد قال الشّاعر: وإذا كانت النّفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام. ومن هنا، فقد اجتهد في العلوم الأدبيّة، كالنّحو واللّغة، وله فيها مبان مبتكرة ودقيقة جدًّا، كما اجتهد في التّفسير والحديث والرّجال والدّراية والفلسفة، فضلاً عن الفقه وأُصوله.

v وممّا يمتاز به سيّدنا أيضًا إحاطته الواسعة بفقه المذاهب الأخرى، وإطّلاعه على أقوال فقهائهم وأُصولهم، وأخبارهم، وتأريخهم، ورجالهم، وحلّهم وترحالهم، وما يرتبط بذلك من نقد وجرح. ولا بأس بذكر ذرّة من مجرّة:

كانت أبحاثه الفقهيّة (رضوان الله تعالى عليه) في الموارد الخلافيّة بمنزلة الفقه المقارن، بل أبحاثًا فقهيّة مقارنة بلا شكّ. ومنها بحث الوضوء الّذي طرحه في آخر دورة فقهيّة من أيّام حياته الشّريفة على جمع فضلاء شركاء بحثه.  وكان كلّما وجد قولاً شاذًّا من فقهائنا في مختلف الأبحاث الفقهيّة تفحّص عن منشأ ذلك في مصادر المخالفين واستخرج سبب الشّذوذ بعد تحقيق عميق وجدّ ومثابرة من كتبهم ومصادرهم المعتمدة وأشار إلى محلّها ومواضعها بصورة دقيقة.

وممّا كان يؤكّد عليه أنّ قضيّة عدم مشروعيّة عبادات الصّبيّ فتنة أثارها العمريّون والأمويّون ومن شايعهم ووالاهم وواكبهم وصافاهم، وكان غرضهم الأوّل أن يرموا به إيمان أمير المؤمنين وعباداته، حيث أنه أوّل من آمن بالنّبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهو صبيّ، كيما يقدّموا غيره الّذي لم يؤمن بالله تعالى طرفة عين. ومن ثَمّ يتوجّهون إلى الحسن والحسين (عليهما السلام)، حيث فتق الله تعالى سمعهم بلذيذ خطابه، وفتح أبصارهم في حضارة الدّين الإلهيّ الحنيف، وهم في أحضان النّبوّة، وحجر الرّسالة، وخالط الإيمان لحومهم ودمائهم، فحظوا باصطفاء الباري لهم، وانتجابه إيّاهم للولاية والإمامة. وإلاّ فإنّ الأدلّة كافية، حافلة، كافلة بإثبات مشروعيّة عباداته، بل وماضية لكثير من معاوضاته ومعاملاته إذا كان يمتلك الرّشد المطلوب، والوعي المقصود. والواقع أنّ الإستدلال بما ذكر على مشروعيّة عبادات الصّبيّ من اختصاصات السّيّد ومتفرّداته بين أعلام الشّيعة.

منهجه في أبحاثه العلميّة

أمّا الفقه:

فكان إذا تناول موضوعًا للبحث الفقهيّ، كان أوّل ما يبدأ به أن يتحرّى له آية قرآنيّة، كي يؤسّس ذلك على قاعدة قرآنيّة، ويستوحي الحكم الشرعي من القرآن، فإن كان الموضوع ممّا استدلّ له بآية رجع إليها، ودعمها ببيان متين، وناقش من ردّها بدليل رصين، بل حاول أن يضيف إليها آيات وشواهد اخرى، بل وبيانات بوجوه متعدّدة كثيرة، كما يسدّد الدّليل، ويقوّي الحجّة، وفيما لم يستند غيره إلى آية قرآنيّة في موضوع ما كان يستخرج الآية الّتي لها دلالة كافية ويردفها ببيان شاف واف بما لا مزيد عليه.

ثمّ يرجع إلى روايات الباب ويقسّمها إلى طوائف متعدّدة حسب الموضوع المبحوث عنه بكيفيّة مبتكرة ويجمع بينها بصورة بديعة ويخرجها عن بعثرتها في كتب الحديث، فينظمها على نسق واحد كأنّها صيغت لأجل هذا الجمع المبتكر واستفادة هذا الحكم الشّرعيّ الخاصّ منها لا غير. هذا إضافة إلى ما يبديه من تحقيقات رشيقة في الرّوايات متنًا وسندًا.

ثم يشير إلى أقوال الفقهاء ويتعرّض لردّ أهمّ الإعتراضات المسجّلة من قبل أكابر الفقهاء المحقّقين دون غيرهم.

وعندما يدور الموضوع حول مسألة أصوليّة كان يبتديء بطرحها وفق ما نهجه الأُصوليّون، ثمّ يقوم بمناقشتها، ويشير إلى مبانيه الدّقيقة فيها.

وأمّا في الأُصول:

فكان إذا طرح مسألة أصوليّة استعرضها على الطّريقة المألوفة، والتّبويب المتعارف أوّلاً، ثمّ يردفها بابتكاراته وإبداعاته الفنيّة الأُصوليّة، بصياغة جديدة، ويطرح من خلالها مبانيه المنفرد بها في الأُصول، المستوحاة من القرآن والحديث.

وأمّا في القرآن:

فكان أسلوبه هو تفسير القرآن بالقرآن واستخراج معانيه منه واستنباطها من موادّ مفرداته وهيئاتها. وله فنون جديدة في إستيحاء معالم القرآن بما لم يسبقه الأوّلون إليها، فليس المقام مقام ذكرها فلتترك إلى محلّها.

وأمّا في الرّجال:

فهو الّذي فتح فيه باب الاجتهاد، وجاء بإبداعات لم يلتفت إليها من صنّف في هذا العلم.

إذ يؤسّس باديء ذي بدء قواعد جديدة مبتكرة، ثمّ يبيّن وثاقة من ضعّفه الرّجاليّون المتقدّمون لعدم الإحاطة بالموضوع، ويقدّم مستندات تحقيقيّة من أجل ذلك، ويردّ التّضعيفات بالتّدليل على منشأ وهنها، كما يقوم بشرح صحة الكثير من الطرق التي توهمها الآخرون ضعيفة. بل وممّا تفرّد به أن أسند الكثير من الرّوايات الّتي عدّت من المرفوعات، بسبب عدم التتبع.

وأمّا في أصول الدّين:

فكان يقوم بإثبات المعتقدات الدّينيّة بالأدلّة والبراهين العقليّة على النّهج المألوف في الحوزات العلميّة، ثمّ يدعمها ببرهنة قرآنيّة (على النّهج الّذي أبدعه)، وذلك بصورة فنّيّة ودقيقة جدًّا، ممّا كان يثير إعجاب الحضّار في بحثه.

وممّا يؤثر عنه، مناظرة دارت بينه (رحمه الله) وبين علماء الوهّابيّة في المسجد النّبويّ، حيث قام بالبرهنة على معتقدات مذهب أهل البيت بالآيات القرآنيّة ببيانات وافية، وحجج قويّة، يقرنها بطلاقة البيان، ورصانة الدّليل، حيث قال بعض علماء الزّيديّة ممّن كان حاضرًا يشاهد هذه المناظرة عن كثب: (ما رأيت أحدًا من العلماء استطاع أن يثبت معتقداته المذهبيّة بهذه الصّورة الفنيّة من القرآن).

محاضراته العلميّة العميقة

v كان سيّدنا إذا طرح فرعًا من فروع كتاب العروة الوثقى، تعرّض أوّلاً لنقد صياغة الفرع واُسلوب بيانه كمًّا وكيفًا، وأنّه هل ينبغي أن يطرح هاهنا أو في محلّ آخر، (ولا أنسي أنّه انتقد السّيّد صاحب العروة بهذه المناسبة في بحث الأواني، فسجّل أكثر من عشرين اعتراضًا على صياغة الفرع الثاني من أحكام الأواني)، باعتبار الدّليل المستند عليه من كتاب وسنّة، أو المبنى الأُصوليّ، أو الفهم العرفيّ، أو الذّوق الأدبيّ، أو غيرها، ثمّ يذكر الأقوال فيه، قلَّت أو كثرت، مراعيًا في ذلك التّرتيب الزّمنيّ والسّير التّاريخيّ الّذي تمرّ عبره إلى الفقهاء المعاصرين من طبقة أساتذته (رضوان الله عليهم)، ثمّ ينتقل وبكلّ دقّة وظرافة إلى منشأ الاختلاف، وطالما يكون لاختلاف الروايات الواردة في الباب، أو لاختلافهم في أسانيدها، أو لاختلافهم فيما يستوحونه منها، وما يمكن أن يستظهر، أو لأجل اختلافهم في مبانيهم الأُصوليّة، أو غيرها.

فإذا كان الأوّل [1] تفقّد السّبب في ذلك في روايات العامّة وأقوال فقهاءهم المتقدّمين، وتعرّض لرواياتهم من ذكر مظانّها ومآخذها ورجالها، وانتقدهم من كلماتهم، وفنّد أخبارهم، وأظهر خبثهم، وأثبت خزيهم وعارهم.

(وكان يعجبنا منه سعة إطلاعه بكتب حديث العامّة ورجالهم وتاريخهم وفقههم على اختلاف مذاهبهم، وكأنّها حاضرة أمام عينيه، ولا غرو، حيث أنّه كان يقول: طالعت كتبهم كما طالعت كتبنا منذ أوان شبابي، وعلّقت عليها، وانتقيت منها، ولي على الصّحاح السّتّة، وسنن البيهقي وغيره حواشٍ نفيسة وعليقة).

ثمّ استعرض أقوال فقهاءهم، وبيّن المخالف والمؤالف ممّن له رأي في الموضوع، ونبّه على المصادر والمراجع، وربما قرأ كلماتهم حرفيًّا، فأخذ بعرضها على النّقد الصّريح، متحيّزًا للواقع الصّحيح.

وإن كان الثّاني،[2] استعرض أقوال علماء الرّجال، وبسط المقال في ذلك المجال، حتّى لا يدع للطّالب موضعًا يحتاج إلى استفسار وسؤال، وحينما ينفتح من خلال شبهة أو وهم وخيال صدر من بعض أكابر الحديث أو الرّجال، تراه كأنّه موسوعة عظيمة، مترامية الأطراف، لا تكاد تنفذ من كثرة ما فيها من المراجعات والتّحقيقات والمثابرات والمعلومات، ويخيّل إليك أنّه مكتبة ضخمة ناطقة وسيّارة، مليئة بالعطاء، وكافلة بحلّ العويصات من دون كلل أو ملل وإعياء، وربما أوعز التّفصيل إلى مخطوطاته ومصنّفاته.

وقلّما شذّ عنه موضوع لم يتعرض له خلال تأليفاته وتحقيقاته، وقد ألفيناه كلّما يذكر موضوعًا قال: أشبعنا الكلام فيه في كتابنا الموسوم بكذا، ولذلك فقد أضفى على الرّجال حلّة الاجتهاد، وخلع عنه ربقة التّقليد.

وإن كان الثالث،[3] تحرّى لجمع القرائن الحاليّة والمقاليّة والتاريخيّة والأدبيّة والعرفيّة، وعرضها على الذّوق السّليم، والطّبع المستقيم، خصوصًا وأنّه كان ممّن لمس الفقه بكونه وكيانه، وذاق طعمه بقلبه قبل لسانه، كأنّ مرتكزاته النّفسيّة فقهًا لكثرة ممارسته إيّاه، وإخلاصه لله في كلّ ما يرجع إلى حفظ الشّريعة الغرّاء، ولعلّ الفقه كان مخالطًا لحمه ودمه.

وإن كان الرابع [4] تعرّض لمباني القوم في اُصولهم، وناقشها بكلّ دقّة وإمعان، ثمّ ذكر الرأى المختار، ودعمه بأدلّته ومستنداته، وحججه وبيانه، وربما أوعز ذلك إلى مؤلّفاته، أو ما سلف من محاضراته.

v وإذا تعرّض لآية من الكتاب، بحث فيها مسترسلاً ما اشتهى القلب وطاب، وذكر جملة من آراء مفسري العامّة، وكثيرًا ما يخصّ منهم بالذكر؛ القرطبي والطبري، ويناقشهم في مبانيهم، وشواهدهم، وأكاذيبهم، ومزاعمهم، ويسند ذلك بكلمات كبارهم من كتبهم وأسفارهم، ويفصح عن بوارهم فيما يوضع مواضع خزيهم وعارهم، وربما أوكل التّفصيل إلى تفسيره المخطوط في مكتبته العامرة.

v وإذا أراد أن يتعرّف على معنى مفردة من لغات القرآن لم يرجع إلى مقالات اللّغويّين، أو معاجمهم، وإنّما يحاول استيحاء معناها من القرآن نفسه قبل كلّ شيء، بتتبّع مواضع تكرار الاستعمال فيه، وما تقصده كلّ آية من التّعبير به.

وحقًّا كان من المجتهدين في علم اللّغة ومفرداتها، بأوزانها وهيئاتها، وله في كلّ ذلك تصانيف تحتوي على مبان مبتكرة، أو مجموعة منتظمة بعد ما كانت منتثرة، وإذا استظهر المعنى من الآية واستوحاه تخال أن الرّجل ولد عربيًّا، وقضى مع العرب آخر ساعاته ولحظاته في حركتاه و سكناته، حتّى أصبحت العربيّة له طبعًا لا تطبّع، وقريحة لا تلكُّع، وذوقًا لا تصنُّع.

v وله خبرة عظيمة بالقراءات المختلفة، كما له كتاب في تاريخ القراءات، وقرّاء الشّيعة، مع ما كتب من دراسات القرآنيّة متفرّقة في شتّى المجالات.

v وأمّا حديثه عن الحديث، فهو في كلّ يوم حديث، إذا لا أعرف أحدًا من المعاصرين كدّ كدّه فيه، مع أنّ الدهر لم يصافيه، وأدلّ دليل على ما نقول؛ شروحه على الكتب الأربعة، والوافي، ووسائل الشيعة، وجامعه الصّحيح، وغير ذلك من مصنّفاته الحديثيّة، وحواشيه على المصادر الرّوائيّة للخاصّة والعامّة، واعتنائه العظيم بتراث أهل البيت (عليهم السلام).

v وقد رأينا منه العجب العجاب عندما ينتهي البحث إلى مسألة نحويّة، أو فلسفيّة، أو هندسيّة، حيث يتعرّض لتنقيح البحث موضوعًا ومحمولاً، ويذكر رأيه، ثمّ يدعمه بحججه ومؤيّداته، ولربما يتصوّر أنّه لم يدرس ولم يقرأ إلاّ عن هذه المادّة فقط، وكثيرًا ما كان يقول: ما دخلت في علم إلاّ وقلت لنفسي إنّي لا أقرأ غيره، حتّى أجمع نفسي وهمّي في يومي أكثر من أمسي، لكي اُمسي وأنا جامع لخيره، وصائد لطيره، لا يشذّ عنّي إلاّ ما زاغ عنه البصر، فأصبحت في كلّ فنّ تقلّدته خبيرًا، بل ناقدًا بصيرًا، فما ترك لي ذلك صديقًا، ولا في طريقه رفيقًا، وكنت منفردًا في كثير من المباني، وربما استوحشت من ذلك خوفًا من المزالق والمهالك، حتّى أجد من المنار الذي ترفعه لي الحجج القاطعة هدىً من الضلال، ونورًا من العمى، فأتفقد وإذا ببعض الفحول الماضين يقول بقولي، فنصطحب معًا إلى حيث القطع واليقين.

v وكان عنده في كلّ يوم جديد، لا يملّه الجليس، ولا يشبع منه الأنيس، كما كان يتمتّع بروح ذات همم عالية، لا تعرف التّعب، ولا يكلّها النَّصَب، حتّى يكاد الطّالب المجد أن يطير في سماء الجدّ والاجتهاد بكلّ قوّة واستعداد لما يلقيه من الرّوح الوثّابة للتّحقيق على تلامذته ومريديه.

v وكنت إذا دخلت عليه في مدارس آياته ومحاضراته، بعد ما أصابني اليأس لسعة الفقه وكثرة فروعاته، وصعوبة الاستواء على مدارجه ومرقاته، وتشعّب مقدّماته ومؤخّراته، وحزونة بداياته ونهاياته، نفث في روعي الجدّ والنّشاط، وبعث في قلبي السّرور والانبساط لمتابعة السّير في هذا المضمار، الّذي حاز قصب السّبق فيه كلّ من جدّ وثار فطار، فكان يقول: أنا لا أكتفي بمطالعتي القديمة، وما كتبت في أيّام سالفة في صحف كريمة، وإنّما أقوم بالمطالعة، واُدقّق في الموضوع من جديد، وأتأمّله وأتريث فيه جانبًا من اللّيل، وأكتب حصيلة ما استوضحته منها مع ما ترونه فيّ من كبر السّنّ، ودقّة العظم، ورقّة الجلد، وكثرة الأسقام المبتلى بها، وأتذكّر أنّ بعض تلامذته اعترضه في يوم من الأيّام، وكان (ذلك في الدّورة الأخيرة الّتي ألقاها بقم) قائلاً: إن كنت لا تقنع بما عندك، وتتحرّى الجديد والتّفصيل الطّويل المديد، فمتى ننتهي من بحث الطّهارة كي ندخل في غيرها من الأبواب الفقهيّة؟ فأجابه قائلاً: لا يجب عليَّ أن أستمرّ معكم إلى أبواب مختلفة، إذ قد لا تفي الحياة بذلك، ولكن عليكم بالدّقّة في منهجي واُسلوبي، وطريقتي في كيفيّة الورود والخروج في مقام الاستنباط، فهذا هو المهمّ.

نعم هذا اُسلوبه في البحث، كانت تزدان محاضراته الفقهيّة بالنّكات الأدبيّة، والرّجاليّة، والتّفسيريّة، والحديثيّة، والتّاريخيّة، والعقائديّة، والأُصوليّة، والفلسفيّة، دون أن تخرج عن مسارها الطّبيعيّ، ومنهجها الواقعيّ، واستنطاقها الوجدانيّ والعرفيّ.

وقد يظنّ الظّانّ -وإنّ بعض الظنِّ إثم- أنّي كابرت بتعريفي عن أُستاذي الفقيد، ومدحي إيّاه، وإطرائي له، فيا سبحان الله، هل كان إلاّ بشرًا عادّيًّا؟ غير أنّه لو كان يعيش معه فترة من الزّمن، ويعايشه في حاله وأحواله، ونقله وانتقاله، وقوله وفعاله، دون شخصه ومثاله، لكان يصدّق بأنّ هذا كلّه حقّ لا مرية فيه، سوى أنّه لا يحصل بهذا العمر الإنسانيّ القصير هذا المقدار الكثير من العلم الغزير، مهما كان الجهد وافرًا، والتّحصيل متواترًا، فلا بدّ من أن يؤمن بأنّه ممدود بعناية ربانيّة، ومراحم صمدانيّة، نبعث من خلوصه في ولائه لآبآئه وأجداده الطّاهرين (عليهم الصلاة والسلام) وشدّة محبّته لهم وتفانيه فيهم، وبذل كلّ غالٍ ونفيس في سبيلهم، وهذا ممّا لا يمكن إنكاره، أليس قد ورد عنهم (عليهم السلام) أنّه: (ليس العلم بكثرة التّعليم والتّعلّم، وإنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء أن يهديه)، بل لا يحقّ لأحد استنكاره، إذ كان ذلك شعاره و دثاره، كما قد طفحت بها مصنّفاته وآثاره، وكفى بالله سبحانه شهيدًا.

v وكلّما جالسناه في غير الدّرس، وكلّ مجالساته ومساجلاته درس، بل دروس وعبر، قال: تبدؤن أو نبدأ، فيمسك هنيئة، فإن اغتنم الفرصة بعضنا فطرح سؤالاً عن مختلف المباحث الفقهيّة أو التّفسيريّة والحديثيّة أو غيرها ممّا يرجع إلى الثّقافات الدّينيّة والمعارف الإلهيّة، وإلاّ قال: (اغد عالمًا أو متعلّمًا) إلى آخر الحديث، فيبدأ بموضوع من اُصول الدّيانات، أو ما يرجع إليها في البدايات أو النّهايات، ويشرحه بصورة وافية وكافية، فينبري الجلاّس من خلال ذلك لطرح أسئلتهم، وما يختلج في صدورهم من شبهة أو غيرها، وهكذا كانت مجالسه عامرة وغنيّة بالأبحاث المشبعة بالتّحقيق والتّدقيق، والبذل والعطاء الصّافي الّذي لا يشوبه منّ، ولا يعتريه ضنّ.

ولو كان يغتنمها أحد بالضّبط والتّسجيل، ويولّيها العناية بالحفظ والتّعديل، لأصبحت مجلّدات كثيرة طافحة بالأبحاث الموضوعيّة، ذات المنهج المتعادل في كثير من المجالات الدّينيّة، والعلوم الإسلاميّة، وقد اغتنم طفيفًا منها بعض زملائنا، فكتب عنه وكتب.

v كما كانت عنده ذكريّات تاريخيّة حيّة عن أساتذته، ومن عاصرهم، أو تقدّم عليهم، إمّا بالمباشرة، أو بإسناد صحيحة وثيقة وعالية لقلّة الوسائط، وقد ضاع الكثير الكثير منها بموته، لانحصارها به، فهو بنفسه كان يمثّل التّاريخ المعاصر للحوزات العلميّة.

v وكان يقول: اعتمدوا على أنفسكم، واستقلّوا برأيكم، فكم ترك الأوّل للآخر، وعظّموا العلم وأهله، ووقّروا الفقيه، شيخه وكهله، ولا تنسوا فضل من تقدّم عليكم، فلو لا مجاهداتهم ما وصلت إليكم، ومع ذلك كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون، وقوموا لله قانتين.

وباختصار:

فإنّي لو قلت: إنّ هذا الرّجل كان اُمّة لوحده، لرجوت أن أكون صادقًا، لكنّه كان مع ذلك يعيش في غربة موحشة، كما كتبت مقالاً عنه أيّام حياته الشّريفة، وصدّرته بهذه العبارة: (عالم أوحدي يعيش في غربة موحشة)، ثمّ قدّمته له، فلم يكن يجيبني إلاّ بقوله: هذا حسن ظنّك بنا، والمعاذ لله تعالى.

وليلة كان بها طالعي            في ذروة السّعد وأوج الكمال

قصّر طيبُ الوصل من عمرها         فلم تكن إلاّ كَحَلِّ العقال

واتّصل الفجر بها بالعشا              وهكذا عمر ليالي الوصال

 

وهنا يصل الدور الى ذكر مؤلفاته ومصنفاته التي اختصصنا بها صفحة مستقلة فلاحظها  هُنا


[1] أي لأجل الاختلاف في الرّوايات.

[2] ي لأجل اختلافهم في أسانيدها.

[3] أي لأجل اختلافهم في الاستظهار.

[4] أي لأجل اختلافهم في المباني الأُصوليّة.